لا تزال النتيجة العسكرية للهجوم الروسي على أوكرانيا غير معروفة، لكن تداعياتها الاقتصادية واضحة تتمثل في أسعار أعلى ونمو أقل ومزيد من التضخم. ويظل السؤال هو إلى أي مدى سيصل الارتفاع وإلى متى؟ ويشعر العالم بالفعل بالآثار المبدئية لجدار العقوبات الذي يقيمه الغرب بسرعة حول روسيا. فقد وصلت أسعار النفط إلى أعلى مستوى لها منذ 11 عاماً. وسعر القمح بلغ مستوى قياسياً. وقد لا يكون هذا إلا بداية فحسب. فكلما طال أمد الحرب، وإذا تصاعد عدد الضحايا المدنيين بخاصة، زاد الضغط على الغرب لبذل المزيد للضغط على روسيا. وهذا يعني سد الفجوة العملاقة التي لا تزال قائمة في جدار عقوبات الغرب والمتمثلة في الطاقة الروسية. 

وإذا استخدمت الولايات المتحدة سلطاتها لمنع روسيا من تصدير النفط، ستصبح التداعيات على الاقتصادات الغربية أشد قسوة بكثير من أي شيء شهدناه حتى الآن. ويرى «هينينج جلويستين»، مدير الطاقة والمناخ والموارد في «أوراسيا جروب» لاستشارات المخاطر السياسية ومقرها نيويورك أن «أسعار النفط والغاز ستتصاعد بجنون. وهذا سيتسبب في ركود»، في بعض البلدان على الأقل. وهذا أحد الأسباب التي تجعل جلويستين واثقاً إلى حد ما من أن إدارة بايدن لن تفعل هذا. لكن محللين آخرين ليس لديهم هذه الثقة. ويعتقد كريس ميللر، الأستاذ بكلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس الأميركية وهو مؤلف لكتابين عن الاقتصاد الروسي أنه سيكون هناك مطالبات باتخاذ مزيد من إجراءات ضد روسيا و«الخطوة الكبيرة التالية هي الطاقة». 
والعقوبات الحالية التي تضغط بالفعل بشدة على نظام بوتين لها أيضا آثار جانبية على بقية العالم، تتمثل في مفاقمة التضخم وإبطاء النمو. وتختلف التأثيرات حسب المنطقة. ففي الولايات المتحدة، سيرتفع على الأرجح ويبقى مرتفعاً لفترة أطول من المتوقع. وعدلت شركة «أوكسفورد إيكونوميكس» للتنبؤات الاقتصادية بتوقعاتها الخاصة بالتضخم للعام إلى 6.5% صعوداً من 5.9%. وسينعكس هذا بشكل بارز في أسعار الوقود للمستهلك. فقد ارتفع متوسط ​سعر الغاز 8 سنتات للجالون في الأيام القليلة الماضية ليصل إلى 3.61 دولار للجالون، وفقاً لنادي «أيه. أيه. أيه.» للسيارات. وأشارت شركة «أوكسفورد إيكونوميكس» أن ضغوط الأسعار هذه ستؤدي إلى إبطاء النمو الاقتصادي الحقيقي لكنها لن تقضي عليه. وأضافت الشركة أن الصراع في أوكرانيا سيقلص نمو العام الجاري بنسبة 0.2% على امتداد العالم. وأوروبا ستتضرر أكثر بسبب أسعار الطاقة. 
ويوم الأربعاء، 2 مارس، ارتفعت أسعار الغاز بالفعل إلى مستويات قياسية بزيادة 60% عن اليوم السابق. وجاء هذا نتيجة عدم اليقين بشأن تقليص أو وقف الروس لتدفق الغاز الطبيعي إلى دول الاتحاد الأوروبي. ولا توجد بدائل جاهزة لدول الاتحاد الأوروبي التي تعتمد بشكل كبير على روسيا في إمداداتها من الغاز. فعلى سبيل المثال تعتمد ألمانيا على الغاز الروسي بنحو 50%، وبولندا بنحو 80%، وبلغاريا بنحو 100%. وكميات الغاز الطبيعي المسال التي يمكن استيرادها من الشرق الأوسط والولايات المتحدة أصغر من أن تعوض الخسارة المحتملة للغاز الطبيعي الروسي. لكن جلويستين يؤكد أن روسيا ليس لديها حالياً بدائل حقيقية للبيع لأوروبا. وليس لديها سوى خط أنابيب واحد مهم يمتد إلى الصين التي يبلغ إجمالي طلبها على الغاز نحو عُشر ما تبيعه روسيا لأوروبا. 
لكن النفط - وليس الغاز - هو كعب أخيل بالنسبة لروسيا والغرب. فالنفط الخام وحده يمثل النصف تقريباً من إجمالي صادرات روسيا. والنفط، على عكس الغاز، يمكن تصديره عملياً إلى أي مكان. ولذا، حتى إذا رفض الغرب شراءه، تستطيع روسيا بيعه للهند التي تشتريه حالياً بخصم كبير، وأيضا للصين. ويرى تايلر كوسترا، أستاذ السياسة والعلاقات الدولية في جامعة نوتنجهام في إنجلترا أن «هذه هي أم كل العقوبات. ولا تستطيع الولايات المتحدة فعل أكثر مما تفعله دون تدمير سوق الطاقة الأوروبية». 
وإذا قررت الولايات المتحدة توسيع عقوباتها المصرفية على روسيا لتشمل النفط – وهو خارج العقوبات الآن- سيصبح شراؤه أصعب بكثير لأي بلد بما في ذلك الصين والهند. وحقق الغرب إلى حد كبير منع تصدير النفط هذا مع إيران. لكن التداعيات ستكون أوخم بكثير إذا تم تنفيذ مثل هذا الإجراء ضد روسيا، وهي دولة مصدرة أكبر بكثير من إيران. ويرى بعض المحللين أن النفط الذي صعد بالفعل إلى 111 دولاراً، يوم الخميس 3 مارس- سيظل مرتفعا حتى تتكيف السوق ويعزز منتجو النفط الآخرون إنتاجهم. وقد يتعطل التعافي المتوقع بعد الجائحة في أوروبا التي تعاني بالفعل من ارتفاع أسعار الغاز الطبيعي. 
وهناك أسباب استراتيجية كثيرة قد تجعل إدارة بايدن لا تقدم على هذه الخطوة. فالولايات المتحدة تريد الحفاظ على جبهة موحدة مع أوروبا ضد روسيا. ولا تريد أن تبدو وكأنها تصعد الصراع. وقد ترغب في منح روسيا حافزاً للتوقف عن الاستيلاء الكامل على أوكرانيا. كما أنها لا تريد دفع الرئيس فلاديمير بوتين إلى حافة هاوية يشعر فيها أنه ليس لديه ما يخسره. لكن السبب الأكثر أهمية لعدم الإقدام على هذه الخطوة قد يكون اقتصادياً. فمع صدمة الجمهور بالفعل من ارتفاع أسعار كل شيء من السيارات إلى الطعام، لأسباب لا علاقة لها بالصراع الأوكراني، تتردد الإدارة في رفع أسعار البنزين الأميركية. 
وهناك مناطق أخرى من العالم تواجه آثار جدار عقوبات الغرب. فروسيا وأوكرانيا من كبار مصدري القمح، وتوردانه بشكل أساسي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ومع انخفاض المخزونات بالفعل إلى أدنى مستوى لها في خمس سنوات وارتفاع الأسعار إلى مستوى قياسي العام الماضي، أدى التهديد بتقليص الإمدادات - بسبب العقوبات أو الحرب نفسها - إلى ارتفاع أسعار القمح 10% أخرى تقريباً الشهر الماضي. وسيكون لهذا آثار تضخمية في جميع أنحاء العالم. لكن التأثير الأقوى سيكون في شمال أفريقيا التي تعيش وسط جفاف شديد.
ومصر، على سبيل المثال، تعتمد على روسيا وأوكرانيا في 70% من احتياجاتها من القمح. وانقطاع واردات القمح سيؤدي إلى زيادة أعباء الحكومة المصرية لتوفير الخبز المدعوم لمواطنيها منخفضي الدخل. وبالنسبة لبلدان أفريقيا الأخرى التي على حافة المجاعة، ستعرض أي زيادة في أسعار القمح عدداً أكبر من السكان للخطر. ويرى «بات ويستهوف»، أستاذ الاقتصاد الزراعي والتطبيقي في جامعة ميسوري، أن «القمح هو أهم مسألة الآن». وأضاف أن الأسمدة من المجالات الأخرى المثيرة للقلق. وروسيا مُصدِّر رئيسي للأسمدة، وسحب إمداداتها من السوق العالمية سيرفع الأسعار. وكانت أسعار الأسمدة تتجه بالفعل نحو الارتفاع، لأسباب أخرى. 
وهناك تأثيرات ثانوية من القطاع الخاص سيتجلى دورها في الأشهر المقبلة وستفاقم عزلة روسيا عن أسواق قطع الغيار ورأس المال والخبرة. وبعض هذه التأثيرات ظهر بالفعل وبشكل كبير. فقد أعلنت شركات إيكسون موبيل وبريتش بتروليوم (بي. بي.) وشل وايكوينر إنها تنسحب من روسيا، على الرغم من مليارات الدولارات من الاستثمارات هناك. وأوقفت شركة توتال ضخ استثمارات جديدة. وأوقفت شركة آبل بيع منتجاتها في روسيا وقيدت استخدام خدماتها الرقمية، مثل Apple Pay. وتعلق «فورد» عملياتها، وتوقف شركتا «بوينج» و«إيرباص» نقل قطع الغيار والدعم الفني إلى روسيا. وتفكر شركات الناقلات والمصافي في التوقف عن نقل النفط الروسي بسبب المخاطر المتزايدة. وتتراجع شركات التأمين عن تغطية المعاملات التجارية مع روسيا. 

لوران بيلسي

صحفي متخصص في الاقتصاد. 

ينشر بترتيب خاص مع خدمة «كريستيان ساينس مونيتور»